يوميات شهيد
أربعون يوماً .. أكثر من أربعين يوماً .. !
بعد أكثر
من أربعين يوماً على استشهاد آيات ، كنت يوم الجمعة
(24/5/2002) أخطو نحو منزل أبو سمير ، بعد انسحاب
الاحتلال الصهيوني الجزئي من المنطقة . و كنت أود
الجلوس معه منفرداً بعد غياب ظروف المفاجأة الضاغطة
عليه ، هذا إذا كان يمكن أن تغيب ، التي أسمّيها من
باب التخفيف "مفاجأة" .. !
و في
الطريق إلى منزله في أحد زواريب مخيم الدهيشة قرب
مدينة بيت لحم ، كان السؤال الداخلي ما يزال يلحّ
عليّ طوال الأيام الماضية : أيام الحصار و الدم و
الألم : هل كان يجب أن تستشهد ، آيات ، الطالبة
المجتهدة ابنة السابعة عشر دفاعاً عن كرامة هذه
الأمة ؟؟
و ما هي
هذه الأمة التي تحتاج لآيات كي تدافع عن كرامتها ،
هل أمة بهذا الشكل بقي لها أدنى كرامة ، لتقوم آيات
، أو غيرها بالدفاع عنها ؟؟
و أمة
كهذه هل تستحق أن تدافع عن (شرفها) آيات ؟ و أي
(شرف) هذا الذي ستدافع عنه .. !
كان ذلك
في يوم الجمعة 29/3/2002م ، عندما غابت آيات ، و إلى
الأبد ، عن شوارع المخيم .. !
كان العرب
الرسميون قد عقدوا قمة تاريخية لمناقشة قضية فلسطين
، و التصعيد الصهيوني غير المسبوق خلال انتفاضة
الأقصى ، التي كانت تخطو في شهرها الثامن عشر ، و
كان مقرّراً للقمة التاريخية أن تستمع لرئيس السلطة
الفلسطينية المحاصر في مقره في رام الله ، يلقي كلمة
افتتاحية عبر الأقمار الصناعية ، و لكن تدخلات عربية
رسمية منعت عرفات الرسمي من إلقاء كلمته ، و بحث
الرسميون مبادرة سلام عربية جديدة ، و أقرّوها ، في
وسط أجواء القمع الصهيوني و البلاهة العربية .
و في
المؤتمر الصحافي الذي عقد في ختام القمة التاريخية
سأل صحافي أجنبي :
- أنا
مندهش .. شارون أعلن أمس عن خططه التوسعية و تمسّكه
بسياسته و رفضه لمبادرتكم ، فما معنى هذه المبادرة
أصلاً … ؟!
و سأل
آخرون :
- ماذا لو
رفضت (إسرائيل) مبادرتكم ؟ ماذا ستفعلون ؟ هل
ستفرضونها بالقوة ، ما هو بديلكم .. ؟!
و خرج
صحافيو الأنظمة يبشّرون بعهد جديد ، .. أخذت فيه
الأنظمة المبادرة و لم تنزل لمستوى مطالب شعوبها ، و
أنها لم تعد تحتكم للشارع الغوغائي .. !
و ما كاد
المؤتمر التاريخي ينهي أعماله ، و ينسى صحافيو
الأنظمة ما قالوه ، حتى كان رد مجرم الحرب شارون
عنيفاً و غير مسبوق ، ببدء حملة أسماها (السور
الواقي) في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام
1967م ، و بدأ حرباً لم تشهدها تلك الأراضي في
تاريخها .
و تقدّمت
دبابات الاحتلال إلى مقرّ عرفات الذي كان محاصراً
منذ أشهر و بدأت باقتحامه وسط أجواء ترقّب و متابعة
شعبية عربية ، و صمت رسمي عربي ..
و في هذه
الأجواء حضرت آيات ..
الفضائيات
العربية ، كل وسائل الإعلام ، مراكز صنع القرار في
العالم ، الرئيس الأمريكي "بوش" .. اتجهت بأنظارها
إلى هناك ، إلى حي "كريات أوفيل" الاستيطاني بالقدس
الغربية ، و العملية الاستشهادية .. إلى آيات .
بعد أقلّ
من ساعة على الإرباك الذي أصاب "شارون" ، مما حدث في
"كريات أوفيل" ، بدأت أصوات الرصاص تلعلع في مخيم
الدهيشة ، و تعلو الزغاريد .. !
كنت ، مثل
غيري أستعد ، للعدوان المقبل على المحافظة ، نزلت
إلى الشارع ، .. شارع القدس – الخليل ، الطريق
التاريخي الذي مرّ به فاتحون و غزاة و أفّاقون و
مغامرون طوال قرون ، كان الفتيان و الفتيات انتظموا
في تظاهرة كبيرة فرحاً بمنفذة العملية :
عندما
اقتربت أكثر منهم سألت :
-هل تأكد
أنها من المخيم ؟
-من هي ..
؟
- ….. ؟
- آيات ….
!
لم يكن
منظر المتظاهرين غريباً في أجواء انتفاضة الأقصى ،
لكنه اكتسب معنى آخر ، كان جيل جديد من الفلسطينيين
، يخرج إلى هذا الشارع تسبقه الزغاريد و يلحقه أزيز
رصاص الفخر الذي ينطلق من بنادق يحملها شبان صغار من
أبناء المخيم ، عاشوا يحملون قضيتهم على أكتافهم.
شرد ذهني
إلى أعوام كثيرة سابقة .. إلى وقائع حدثت في هذا
الشارع قبل خمسة و ثلاثين عاماً .. تاريخ بعيد لا
أعيه تماماً و لكن عشت سنوات عمري مع نتائجه … و لا
يعيه هؤلاء الفتية و الفتيات و لكنهم كانوا أبناءه :
أبناء ما أسموها : نكسة .. !
و سمعوا
من آبائهم عندما وقفوا في هذا الشارع : شارع القدس –
الخليل ، في ذاك الحزيران الحزين ، حزيران السابع و
الستين ، أشهر حزيران في تاريخ العرب ، ينتظرون
الجيش العراقي المخلّص ، و الجيوش العربية الأخرى
التي ستسحق "تل أبيب" .. !
و سمعت
أيضاً ، مثلهم ، من والدي .. !
***
عاش والدي
و مات فقيراً ، دفن خمسة من أبنائه قضوا في صراع
البقاء مع اللجوء و الجهل و الفقر و المرض ، و هو
الذي لم يبقَ لديه شيء ليخسره مثل كلّ فقراء الدنيا
، ظلّ يتمسك بكرامة و عزة و بأوراق صفراء متآكلة
يسميها (كواشين) لأرضٍ عاش يشرق إليها بالقلب و
انثيالات الحنين و المنتأى ..
و كانت
فلسفته التي حرص على تعليمها لي ، أن أعيش الحياة
طولاً و عرضاً ، و لا أخاف شيئاً .. و أقول للأعور
(أنت أعور في عينه) ، باعتبار ذلك قمة الشجاعة ، و
مات والدي قبل أن يعرف أن الشجاعة الحقيقة هي أن
تقول (للحلو .. حلو في عينه) .. !
و عشت غير
مصدق أن والدي يمكن أن يكون شجاعاً ، فهو رجل متعدد
الانهزامات ، مهزوم أمام العمر الذي يجري دون أن
تلوح في الأفق بارقة عودة للأرض و الأملاك و العز
الغابر ، مهزوم أمام القرش الذي لم يعد يجري بين
يديه كما كان (أيام البلاد) التي ضاعت ، مهزوم أمام
زوجته العنيدة ، و أول موقف انهزامي سجلته عيناي
عندما كانتا صغيرتين ، في حزيران السابع و الستين ..
في ذلك
الصيف كان عمر الولد وقتذاك أقلّ من أصابع اليد
الواحدة ، و مع ذلك ما زال يذكر أمه التي جمعت
الأولاد و استعدت للرحيل مع الريح الشرقية إلى ضفة
الأردن الأخرى .. يذكر الخوف و اللهفة و الجرح
النازف ..
و يذكر
أيضاً ، الوالد المشغول بالبحث عن قطعة قماش بيضاء ،
قميص أبيض ، أي خرقة بيضاء ، ليرفعها في سمائه
السوداء بعد أن تبين بأن الجيش الذي دخل المخيم لم
يكن هو الجيش الذي انتظروه .
و يعود
الولد بذاكرته ، التي تداخلت مع محكي الكبار ، إلى
اليوم .. من أوله ، حين تجمّع ناس المخيم على رصيفي
الشارع بين قدس الأقداس و مدينة إبراهيم الخليل ،
هتافات .. و أناشيد و رقص .. عرس حقيقي ، يتحلّق
الجميع في دوائر متداخلة ، الرجال يطلقون المواويل
بأصواتهم الغليظة ، في كل حلقة تشمّر إحدى النساء
ثوبها ، غ نه يوم مباح لنشوى المكبوت ، تثبت طرفه في
خصرها ، و تنزل تلهب الأرض بقدميها ، تتعالى
الهتافات ، تجحظ العيون ، و القلوب الناشفة تتخلى ،
في لحظة ، عن يباسها إلى الأبد ، فالأمل الذي يرقصون
له .. خرجوا من أجله ، تحقّق بجسر الهوة بين الأمل و
تحقيقه :
(الجيش
العراقي .. وصل .. وصل .. يا ناس ..!) .
على جانبي
الشارع يعيش الناس فرحهم الأول ، و في الشارع تتقدّم
ثلة من الجيش الذي ينتظرون .. هم .. و من غيرهم ؟
أبناء الرافدين الصناديد .. يرش الملح في فرح يتضاءل
أمامه أي فرح .. أفراحهم كانت سراباً .. و هذا هو
الماء .. الواحة في صحراء زمانهم .. تخفّف الرجال من
عبء الملابس الثقيلة ، هذا وقت الدبكة و السحجة و
الدحية ، وقت النساء بامتياز ، لن تحبس زغرودة في
صدرٍ مكلوم .
و رغم
الوجوه الحمر .. و العيون الملونة و الأنفاس الغريبة
، التي تدب على الشارع ، إلا أن قلباً لم يتوجّس ،
إنهم العرب .. أولاد العراق ، الذين انتظرناهم
طويلاً ، حتى خرجت من بين صفوف لابسي الكاكي ،
المجنّدة ذات الشعر الأشقر و القميص المشقوق بدون
أكمام ، و الشورت الذي يكشف عن المحرّم ، و رسمت لهم
بيديها خازوقاً نفذ ، مرة واحدة ، إلى الأعماق ، و
هي ترطن من قاموس البذاءة بكلمات كشفت عن هوية
المحتلين الجدد .. !
انكفأ
الجميع ، البعض سابق دقات قلبه المتسارعة ليلحق
بالراحلين ، و الوالد سارع مثل كثيرين لرفع الراية
البيضاء ، فهو لن يكرّر تجربة الرحيل مرتين .
الأم
تلملم صغارها ، كدجاجة تحاول وضع فراخها تحت جناحيها
المكسورين ، و ترفض بشدة أن تعطي غطاء رأسها الأبيض
للوالد ليرفعها علامة ، هي تريد الرحيل ، و هو يحاول
أن يتجرّع غصة الهزيمة و يظلّ .
و بعد
نوبة مناكفة ، و لأن الوالد يعرف امرأته جيداً حين
تعاند في موضوع ما ، لم يبقَ أمامه سوى أن يخلع
سرواله (أبو الدكة و الترباس) ، رغم أنه لم يكن ناصع
البياض ، و يرفعه على خشبة طويلة ثبتها على غرفة
وكالة الغوث ، دون أن يعرف الوالد حينها أن سرواله
سيكون سمة و شارة لزمن عربي ما تزال تعيشه أجيال
متعاقبة .
***
و كأن
الفتية و الفتيات هؤلاء يرفضون أن يعيشوا واقع
الهزيمة ، فخرجوا في نفس الشارع بعد خمسة و ثلاثين
عاماً لا ينتظرون أحداً ، و لا يمنون أنفسهم بأي "غودو"
لا يأتي ، و إنما كانوا في انتظار عودة روح رفيقتهم
التي أرسلوها إلى هناك ، و جاءهم خبر النجاح ،
فخرجوا يرحبون بروحها .. !
اقتربت
منهم أكثر ، لم يكن لديّ وقت كثير ، فالدبابات على
المشارف ، و ستدخل في أية لحظة .. فسألت :
- من هي
.. من .. هي .. ؟
* آيات ..
- … ؟
* آيا ..
آيات… ابنة أبو سمير .. !
|